اتفاق الطائف وجوزيف عون- فرصة لبنان للإصلاح والسلام
المؤلف: محمد الساعد10.20.2025

في عام 1989، وبفضل وساطة سخية من المملكة العربية السعودية، توصل اللبنانيون إلى ميثاق وطني تاريخي عُرف بـ "اتفاق الطائف". هذا الاتفاق، الذي يُعد الأبرز في تاريخ لبنان الحديث، وضع حدًا لحرب أهلية طاحنة مزقت البلاد، وحوّل لبنان من كيان تحكمه الميليشيات المتناحرة إلى دولة ذات شكل مؤسسي. لقد كانت تلك الحقبة بمثابة فرصة ذهبية لضمان استمرار لبنان وشعبه في الوجود، بعيدًا عن هاوية الحرب المدمرة.
كان اتفاق الطائف بمثابة تسوية مرضية وعادلة لجميع الأطراف المتصارعة، حيث ضمن لمختلف المكونات اللبنانية اقتسام السلطة وتداول القرار السياسي والأمني والاقتصادي. وبالرغم من ذلك، كاد هذا الانسجام أن يتلاشى في أكثر من مناسبة، لا سيما بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في عام 2005، وبعد اجتياح حزب الله للمناطق السنية والتعدي عليها في عام 2007.
حافظ اتفاق الطائف، ولا يزال، على الحد الأدنى من مقومات الدولة اللبنانية، إلا أن لبنان الذي طمح إليه الجميع لم يتحقق بالكامل. والسبب في ذلك لا يكمن في الاتفاق نفسه، بل في أن القوى الإقليمية والدولية الطامعة لم تكن ترغب إلا في جزء من لبنان، لا في لبنان الموحد والمزدهر. وبعبارة أخرى، كانوا مهتمين بالشكل الخارجي للدولة، وليس بجوهرها ومؤسساتها. ونتيجة لذلك، لم يبذل الفرقاء اللبنانيون جهودًا حقيقية للخروج من مأزقهم السياسي والأمني، وفوتوا فرصة نادرة لبناء وطنهم على أسس متينة.
واليوم، تلوح في الأفق فرصة ثانية مع الدعم السعودي السخي والتوافق الدولي الذي سبق تعيين رئيس جديد للجمهورية اللبنانية. وبالتأكيد، فإن الاتفاق على الرئيس جوزيف عون لا يشبه بأي حال من الأحوال تعيين الرئيس الأسبق رينيه معوض في عام 1992، فالظروف قد تغيرت بشكل كبير. ومع ذلك، يمثل اتفاق جوزيف عون خطوة هامة في مسيرة سياسية طويلة يمكن أن تعيد لبنان إلى مساره الصحيح، وتحوله إلى دولة ناجحة بدلًا من الكيان الهش الذي عانى طويلًا من غياب الدولة.
ولعلنا نتذكر كيف أن النظام السوري آنذاك قد التف على اتفاق الطائف واغتيل رينيه معوض، وأحكمت دمشق قبضتها على القرار اللبناني لمدة ثلاثة عقود تلت ذلك. وقد شهدت تلك الفترة حروبًا بالوكالة، واغتيالات بالجملة، وتحول لبنان المتعافي إلى مجرد مصنع ضخم للمخدرات.
صحيح أن الظروف الحالية التي أعقبت انتخاب جوزيف عون لا تشبه ظروف عام 1992، إلا أن أي محاولة لتعطيل الاتفاق أو الالتفاف عليه ستعتبر حماقة أكبر من حماقة اغتيال الحريري وقبله رينيه معوض. فإعادة تشكيل المنطقة على يد القوى الكبرى، من كابول إلى المحيط الأطلسي، لن تتوقف، وكل من يراهن على قدرته على الوقوف في وجه قطار التغيير سيواجه مصيرًا مشابهًا لما تعرض له نظام بشار في حده الأدنى، وما تعرض له حزب الله في حده الأعلى.
لا يزال البعض في المنطقة، ممن يعيشون في الماضي بكل تفاصيله، يعتقدون أنهم قادرون على التذاكي والالتفاف على تطورات اليوم، كما فعلوا منذ الثمانينيات وحتى 7 أكتوبر 2023. ويتوهمون أن قليلًا من الانحناء سيمكنهم من استيعاب العواصف ثم استعادة المبادرة، واحتلال قرارات الحرب والسلام في الإقليم مرة أخرى. ولكن، لا بشار سيعود إلى السلطة، ولا حزب البعث الذي اندثر سينهض من جديد، ولا "غازي كنعان" جديدًا سيدير لبنان من البقاع. لذلك، لا يمكن إعادة خلق النظام السابق في دمشق مرة أخرى، فقد فشلت جميع محاولات إعادة إحياء نظام البعث في العراق، والجماهيرية الليبية. وهذا بالتأكيد سيخلق واقعًا سياسيًا جديدًا في منطقة الشام بأكملها، من دير الزور شرقًا إلى بيروت غربًا.
